كان البرنامج الكارتوني (بات مان) يأتي في تمام الساعة الخامسة بعد الظهر على قناة سبايستون. كنت لا أفوت أيةَ حلقة، كنت منبهرًا بشخصية بات مان الغامضة، وحركاته ونبرة صوته. كنت أحاول تقليده دائمًا، لدرجة شراء زيه والقفز من فوق الدولاب مرتديًا إياه.. ثم فجأة! في إحدى الحلقات، صُدمت حين رأيته يوبخ خادمه (ألفريد). لطالما كان (ألفريد) وفيًا لبات مان.. لماذا فعل بات مان شيئًا كهذا؟! كرهت بات مان، ولم أعد أرتدي زيه ولا أقفز من فوق الدولاب، وحذفت قناة سبايستون من قنواتي المفضلة.
تجاوزت صدمتي، وتقبلت أن بات مان لن يصيب دائمًا.. لكن لم أستطع تقبل هذا على مقياسٍ أكبر، لم أستطع تجاوز الأمر حين رأيت معلمي يتهاون في شرح الدرس، وبعدها حين أخرج علبة السجائر وبدأ يتغلغل الدخان في رئتيه حتى أخرجه تجاه وجهي، هذه أول مرة أستنشق فيها دخان السجائر. وحين رأيت إمام مسجدنا سريع الغضب، لم يتحمل سؤالي. وحين رأيت محفظ القرآن أول مرة وهو يحمل عصاه لعقابنا. وحين كنت بالكاد أستطيع القراءة فقرأت خبرًا يقول أن ضابطًا اغتصب فتاةً صغيرةً. وحين علمت أن فنانًا أحترمه أصبح سكيرًا، وقتل طفله في حادث سيارة. وحين سمعت أن رياضيًا محببًا إلي أشارت تحاليله أنه كان يتعاطى المنشطات. كنت ساذجًا.. لم أعلم وقتها المعنى الحرفي لكلمة (بشر)، لم أتخيل كيف لهؤلاء أن يخطئوا.. لم أدرك المزيج المخيف بين الخير والشر في نفس الإنسان.. لم أعلم حينها كيف أتصرف، هل آخذ منهم الخير والشر معًا؟ هل أكرر أخطائهم؟ أم آخذ الخير فقط؟ حاولت البحث عن نموذج حي كامل، لكني للأسف لم أجده.
كلٌ يؤخذ منه ويرد. يستحسن ألا تفعل مثلي؛ فتظن أن كل الناس ملائكة، أو أن جميعهم شياطين. خذ منهم ما ينفعك بنفع الناس، ورد ما يضرك بضر الناس. أعلم أنك مررت بمثل تجربتي مع بات مان، ولازلت أرى أثر الصدمة على وجهك. هون على نفسك، فلن يصيب أحدٌ دائمًا، ولن يخطئ دائمًا.
وعلى الجانب الآخر، ما الشيء الذي بمقدورنا فعله؟ كيف يمكننا التقليل من الصدمات التي تصيب الأجيال القادمة؟ وكيف يمكننا وقف السيل المتواصل من هدم كل شيء؟ نحاول فقط التقليل من الصدمات، نحاول الحفاظ على مكانة كل شيء وكل شخص. لن يكون سهلًا أن يرى الجيل القادم طريقة “عدم” اتباعنا لأي شيء، وعدم حفاظنا على مكانة أو قدسية أي شيء.. هم كالمرآة المكبرة، إن كنا سيئين، فسيصبحون أسوأ، والعكس تمامًا.
ما زرعناه في نفوسهم لن نراه اليوم ولا الغد ولا بعد غد، ولكن بعد عمر مديد، عندما نحتاج لهم ولا يحتاجون إلينا.
كلٌ يؤخذ منه ويرد.
نشرت في شوارع مصر.